مقدمة

منذ لحظة انطلاق شرارة الثورة التونسية في 2010، تبدّل المشهد الإعلامي من إعلام رسمي موجه إلى فضاء مفتوح يَعِجّ بالأصوات والتيارات. هذا التحول، الذي رُوِّج له كدليل على ديمقراطية ناشئة، سرعان ما اصطدم بجدار الواقع الاقتصادي والسياسي. ففي ظل انحسار الإعلان المحلي، وتمدّد نفوذ التمويل الأجنبي، أصبحت المؤسسات الإعلامية التونسية محاصَرة من جهتين: حاجة مادية عاجلة، وضغوط سياسية خفية. وهنا يبرز سؤال محوري: هل يمكن الحديث فعلاً عن إعلام حرّ في تونس؟ أم أن الاستقلالية باتت شعاراً بلا مضمون؟

تعددية شكلية وفوضى بلا أفق

عرفت تونس بعد الثورة طفرة إعلامية هائلة: قنوات، إذاعات، منصات رقمية، صحف جديدة… لكن هذا التعدد الكمي لم يُرافقه تطور اقتصادي يسمح باستدامة التجربة. بل إن الاقتصاد التونسي، بطبيعته الرأسمالية المحابية وغير التنافسية، لا يُنتج بيئة تسمح بولادة مؤسسات إعلامية حرة. فالمنظومة الاقتصادية، القائمة على النفاذ إلى الريع والامتيازات، لا تتيح إنشاء مشاريع إعلامية مبنية على نماذج أعمال حقيقية تُحصّن الخط التحريري من الضغط المالي أو السياسي.

كل مؤسسة إعلامية تقريباً انطلقت دون خطة أعمال متماسكة، بل في الغالب كانت إما امتداداً لرأس مال يبحث عن تعزيز نفوذه، أو منصة مموّلة لخدمة أجندة محددة. وهكذا، أُجهضت فكرة “الإعلام الحر” قبل أن تولد، بفعل بنية اقتصادية تُقصي المبادرة الحرة وتُكافئ الولاء.

الإعلان… سلاح بيد الكبار

السوق الإعلاني في تونس صغير، لا يتجاوز 150 مليون دينار (حسب أرقام 2021)، وتُهيمن عليه 10 علامات تجارية فقط. مجموعتان إعلانيتان ذات رأس مال أجنبي تتحكمان في 70% من هذا السوق، مما يجعل وسائل الإعلام مضطرة لمراعاة مصالح هؤلاء المعلنين حتى لا تُقصى من الدورة الاقتصادية.

هكذا أصبح المعلن “الرقيب الحقيقي”، يتحكم في الخطوط الحمراء والمواضيع المحظورة، ويوجّه السياسة التحريرية بشكل غير مباشر. وما يزيد الطين بلّة أن هذا التمويل غير موزّع بشكل عادل، بل يُمنح غالباً لمؤسسات مقربة من دوائر النفوذ أو محظوظة بامتيازات لا تتوفر للجميع.

التمويل الأجنبي… البديل المعلَّب

في غياب دعم وطني مستقل، لجأت بعض المؤسسات إلى التمويل الأجنبي، خصوصاً من جهات مثل الاتحاد الأوروبي، NED ،IRI، وUSAID. وإذ تقدّم هذه المنصات نفسها كـ”إعلام مستقل”، إلّا أنّها تعمل في الواقع ضمن حدود مرسومة مسبقاً، وتخدم توجهات المموّلين الخارجيين، حتى وإن تزيّنت بشعارات الحرية، الاستقلالية والشفافية.

فالممول الأجنبي لا يمنح المال مجاناً، بل يُرفقه بأجندة واضحة، تبدأ من طريقة إدارة المحتوى، ولا تنتهي عند اختيار الضيوف أو ترتيب الأولويات التحريرية. وهذا التمويل، رغم ما يوفّره من موارد، يعمّق الارتهان ويشوّه وظيفة الإعلام كفضاء سيادي مستقل.

البديل الوطني… بين الحلم والممكن

إذا أردنا فعلاً بناء إعلام وطني حر، فعلينا معالجة جذور الأزمة، لا مجرد مظاهرها. ذلك يقتضي:

  • إصلاح المنظومة الاقتصادية لتكون تنافسية وتسمح بميلاد مؤسسات إعلامية قائمة على نماذج أعمال حقيقية.
  • إعادة توزيع السوق الإعلاني بطريقة عادلة وشفافة.
  • وضع ضوابط قانونية واضحة تحكم التمويل الأجنبي وتمنع التوظيف السياسي.
  • دعم الإعلام العمومي دون وصاية، وتمويل المبادرات الشبابية ذات الطابع التشاركي.

إن الإعلام ليس مجرد مرآة تعكس الواقع، بل هو فاعل في تشكيل الوعي الوطني. ولهذا لا يمكن تركه رهينة لمعلنين كبار أو جهات أجنبية، بل يجب أن يكون جزءاً من مشروع وطني سيادي، يعمل لأجل تونس، لا لحساب مصالح أخرى.

الولاء للوطن، السيادة للشعب.

القرار الحرّ


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *