في خضم التحديات المعاصرة التي تواجهها تونس، من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، يبرز اتجاه ملحوظ في الخطاب السياسي التونسي: استدعاء الماضي واستغلال الحنين إليه كأداة سياسية. يعمد السياسيون التونسيون، باختلاف توجهاتهم الأيديولوجية، إلى استحضار حقب تاريخية مختلفة، مستثمرين الشعور بالحنين لعصور ذهبية مفترضة لتحقيق مكاسب سياسية في الحاضر.

الحنين إلى الإمبراطورية الإسلامية

تشكل فترة الفتوحات الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية في شمال أفريقيا مصدراً خصباً للخطاب السياسي ذي التوجه الإسلامي في تونس. تستحضر الأحزاب والتيارات الإسلامية صورة “العصر الذهبي” للإسلام، مستشهدة بإنجازات القيروان كمركز علمي وثقافي، والدور الذي لعبته تونس في نشر الإسلام.

يوظف هذا الخطاب مفاهيم مثل “الأصالة” و”الهوية الإسلامية” لاستقطاب الجماهير، مقدماً الماضي الإسلامي كنموذج مثالي للحكم والمجتمع. غالباً ما يتم تجاهل التعقيدات التاريخية والتحديات المعاصرة، مع تركيز انتقائي على جوانب محددة من التاريخ الإسلامي تخدم الأجندة السياسية الحالية.

استحضار الإرث العثماني

على الرغم من الجدل حول الحقبة العثمانية في تاريخ تونس، يعمد بعض السياسيين إلى استحضار صور إيجابية عن هذه الفترة. يتم تصوير العهد العثماني أحياناً كفترة استقرار نسبي وازدهار ثقافي، خاصة خلال عهد البايات والحكم شبه المستقل في تونس.

يرتبط هذا الاستحضار غالباً بخطاب معارض للتأثير الغربي، مقدماً نموذجاً “شرقياً” بديلاً للحداثة الغربية. ومع ذلك، تتجاهل هذه الرؤية الاستعمارية أيضاً الجوانب السلبية للحكم العثماني، من ضرائب باهظة وقمع سياسي في فترات عديدة.

الحنين إلى عهد بورقيبة

يمثل الرئيس الحبيب بورقيبة، مؤسس الجمهورية التونسية الحديثة، رمزاً محورياً في الخطاب السياسي التونسي المعاصر. يستحضر العديد من السياسيين، خاصة من التيار العلماني والحداثي، “العصر الذهبي” لبورقيبة كفترة تميزت بالتحديث والتعليم وحقوق المرأة.

يتم تقديم شخصية بورقيبة كرمز للدولة القوية والمؤسسات الفاعلة، مع تركيز على إنجازاته في مجالات الصحة والتعليم والتحرر الاجتماعي. غالباً ما يتم التغاضي عن الطابع الاستبدادي لحكمه وقمع المعارضة السياسية، في سبيل تقديم نموذج مثالي للحكم الرشيد.

قرطاج والإرث القديم

يشكل التاريخ القديم لتونس، خاصة الحضارة القرطاجية، مصدراً آخر للخطاب السياسي المستند إلى الحنين. يستحضر السياسيون، خاصة من ذوي التوجهات القومية أو المحلية، عظمة قرطاج كقوة إقليمية وحضارة متقدمة نافست روما.

يهدف هذا الاستحضار إلى تأكيد عراقة الهوية التونسية وتميزها، وإبراز دور تونس التاريخي كملتقى للحضارات. كما يوظف هذا الخطاب لتعزيز فكرة “الاستثنائية التونسية” في المنطقة العربية، وتبرير مسارات سياسية خاصة ومختلفة.

الحنين إلى الاستقرار والازدهار الاقتصادي

بعيداً عن الحقب التاريخية البعيدة، يستحضر بعض السياسيين فترات أقرب شهدت استقراراً اقتصادياً نسبياً، كبعض سنوات حكم بن علي التي تميزت بنمو اقتصادي. يتم تقديم هذه الفترات كنموذج للاستقرار المفقود حالياً، متجاهلين الثمن السياسي والاجتماعي الذي كان يدفع مقابل ذلك الاستقرار المزعوم.

لماذا يلجأ السياسيون إلى بيع الحنين؟

ضعف البرامج السياسية الواقعية

يعكس اللجوء المفرط إلى استحضار الماضي غالباً ضعف البرامج السياسية الواقعية القادرة على معالجة مشكلات الحاضر. فبدلاً من تقديم حلول عملية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يجد بعض السياسيين في الحنين ملاذاً سهلاً لاستقطاب المشاعر الشعبية.

البحث عن الشرعية السياسية

يمثل استحضار الماضي وسيلة لاكتساب الشرعية السياسية من خلال ربط المشروع السياسي الحالي بإرث تاريخي محترم. يحاول السياسيون تقديم أنفسهم كورثة شرعيين لعصور ذهبية سابقة، وكحاملين لمشعل تاريخي يمتد عبر القرون.

الهروب من مواجهة تحديات الحاضر

يشكل الحنين إلى الماضي أحياناً هروباً من مواجهة تعقيدات الحاضر وتحدياته. فبدلاً من الاعتراف بالطبيعة المعقدة للمشكلات المعاصرة وضرورة الحلول المبتكرة، يقدم بعض السياسيين “العودة إلى الماضي” كحل سحري لمشكلات الحاضر.

مخاطر سياسة الحنين

تشويه الوعي التاريخي

تؤدي سياسة الحنين غالباً إلى تشويه الوعي التاريخي من خلال تقديم صورة مثالية ومبسطة عن الماضي. يتم انتقاء عناصر محددة من التاريخ وتضخيمها، مع تجاهل الجوانب السلبية أو المظلمة، مما يخلق وعياً تاريخياً مشوهاً وغير نقدي.

تعطيل التفكير المستقبلي

يمكن لاستحضار الماضي المفرط أن يعطل التفكير المستقبلي ويحد من القدرة على تخيل حلول جديدة للمشكلات المعاصرة. عندما يكون النموذج المثالي في الماضي دائماً، تتقلص مساحة الابتكار والإبداع لمواجهة تحديات الحاضر.

تعميق الانقسامات المجتمعية

نظراً لتعدد النماذج التاريخية المستحضرة واختلافها (إسلامي، علماني، قومي، إلخ)، يمكن لسياسة الحنين أن تعمق الانقسامات المجتمعية وتخلق صراعاً على “الماضي الصحيح” الذي يجب محاكاته.

نحو خطاب سياسي متوازن

يتطلب تجاوز سياسة الحنين خطاباً سياسياً متوازناً يستفيد من الدروس التاريخية دون الوقوع في فخ المثالية والتبسيط. يمكن للسياسيين الاستفادة من التراث الثقافي والحضاري الغني لتونس كمصدر إلهام، مع التركيز على معالجة مشكلات الحاضر بحلول عملية مناسبة للقرن الحادي والعشرين.

يتطلب هذا التوازن وعياً نقدياً بالتاريخ، يعترف بإنجازاته دون تقديسه، ويستخلص دروسه دون تكراره. كما يتطلب خطاباً سياسياً صادقاً يعترف بتعقيدات الواقع ويتجنب الحلول السحرية المستوحاة من ماضٍ متخيل.

خاتمة

تمثل سياسة الحنين في تونس ظاهرة معقدة تعكس أزمة الخطاب السياسي المعاصر وصعوبات المرحلة الانتقالية. لكن التقدم الحقيقي يتطلب تجاوز النظرة الرومانسية للماضي نحو رؤية واقعية للحاضر وطموحة للمستقبل، تستلهم من التاريخ دون أن تكون أسيرة له.

إن تونس، ببعدها المتوسطي وعمقها الإفريقي وامتدادها العربي، تمتلك تراثاً ثقافياً متنوعاً يمكن أن يشكل رصيداً للمستقبل، لكن فقط عندما يُنظر إليه بعين نقدية واعية تميز بين استلهام الماضي والانغلاق فيه.

الولاء للوطن، السيادة للشعب.
القرار الحرّ


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *