مقدمة:

إذا أردنا التفكير في نقطة انطلاق حقيقية لإصلاح الاقتصاد التونسي، فلا يمكن تجاوز قطاع الطاقة. فهو ليس مجرد قطاع من بين قطاعات أخرى، بل يمثل البنية التحتية التي يستند عليها كل نشاط إنتاجي أو خدمي، وهو الحاسم في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية. إن مراجعة جذرية لاستراتيجية الطاقة في تونس تُعدّ مفتاحًا استراتيجيًا لحل أزمات متعددة متشابكة، من العجز التجاري والتضخم، إلى الفقر الجهوي وتدهور القدرة التنافسية الوطنية.

الطاقة في التاريخ الاقتصادي والسياسي الحديث: 

منذ الثورة الصناعية، أصبح توفر الطاقة الرخيصة والمستقرة أحد أعمدة التقدم الصناعي والتنموي. حلّت الطاقة كمحرك اقتصادي محل الجهد البشري والحيواني، وفتحت الباب أمام التحولات الكبرى في الإنتاج، والنقل، والبنية الاجتماعية. لا يمكن فهم تحرر الدول الاستعمارية من نموذج الاستعباد دون فهم كيف مكّنت الطاقة الميكانيكية الإمبراطوريات من تعويض العمالة القسرية.

ومع الثورة الرقمية وثورة الذكاء الاصطناعي، أصبحت الطاقة – وتحديدًا الكهرباء – مكوّنًا ضروريًا لأتمتة الجهد الذهني ولتشغيل مراكز البيانات والروبوتات الصناعية. وبذلك، فإن من لا يملك سيادته الطاقية سيفقد حتمًا سيادته الإنتاجية والتكنولوجية.

واقع المنظومة الطاقية في تونس:

يعاني الاقتصاد التونسي من عجز تجاري هيكلي، وتُظهر المعطيات أن العجز الطاقي يمثل أكثر من 60% من هذا العجز. إذ تعتمد تونس بشكل شبه كلي على الغاز الطبيعي المستورد لتوليد الكهرباء. هذا الارتباط يُحوّل الطاقة من أداة إنتاج إلى أداة ارتهان.

ويُفاقم هذا الوضع ازدياد الطلب الوطني على الكهرباء سنويًا، ما يهدد بارتفاع فاتورة التوريد واستنزاف الاحتياطي من العملة الصعبة. في المقابل، لا تمتلك البلاد احتياطات نفطية أو غازية كافية لتأمين الاكتفاء الذاتي، لكنها تمتلك كنزًا مهملًا: الإشعاع الشمسي والحراري الهائل في الجنوب التونسي.

الكهرباء كأداة لبناء الدولة:

الكهرباء ليست مجرد خدمة، بل أداة مركزية لتوسيع الهامش السيادي للدولة. عبر وفرة الكهرباء، يمكن لتونس أن:

  • تطور منظومة نقل عمومي تعتمد على السكك الحديدية، مما يقلل تكاليف النقل ويحد من التضخم.
  • تحتضن مراكز بيانات سحابية ومصانع رقمية.
  • تدعم الصناعات التحويلية كثيفة الاستهلاك للطاقة.
  • تُمكّن من تعليب وحفظ المواد الغذائية والتقليص من الفاقد.
  • تطوّر قطاع الصحة من خلال التجهيزات الطبية عالية الاستهلاك الطاقي.
  • تؤمّن التبريد المنزلي الضروري في ظل تغير المناخ.
  • تعزز الزراعة الذكية المعتمدة على المكننة الآلية.

دروس من التجربة الصينية:

رغم اعتمادها الكبير على الفحم، نجحت الصين في تطوير مزيج طاقي سيادي يراعي الجغرافيا، التحديات الجيوسياسية، واستدامة النمو الصناعي. وراكمت السيادة التكنولوجية عبر:

  • توطين تقنيات النقل الكهربائي الفائق الجهد (UHVDC).
  • الاستثمار في سلسلة قيمة الليثيوم والمعادن النادرة.
  • تطوير بطاريات بديلة والتدوير الكامل لمكوناتها.
  • خلق توازن بين مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة.

الصين لم تنجر وراء الإملاءات البيئية الغربية بل تعاملت معها ضمن أولوياتها السيادية، وفرضت نمطًا خاصًا للتنمية الطاقية، يقوم على الاكتفاء، والتحكم، والتدرّج.

الفرص الطاقية في تونس:

تمتلك تونس أراضٍ غير مأهولة بإشعاع شمسي مرتفع، وأسقف مباني عمومية مهملة، ومجالًا بحريًا مفتوحًا، وهي عناصر يمكن أن تُحوَّل إلى رافعة إنتاج كهرباء نظيفة.

لكن العائق الحقيقي لا يتمثل في الإمكانيات، بل في غياب الإرادة السياسية والإدارة الرشيدة. لذلك نقترح:

  • إطلاق مشروع سيادي وطني للانتقال الطاقي، يبدأ بتركيز لواقط شمسية على الأسطح العمومية والمجال البحري.
  • إشراك الجالية التونسية بالخارج في تمويل المشاريع الطاقية عبر أدوات استثمارية شفافة ومربحة.
  • بناء شبكة مراكز صيانة وتشغيل محلية لتوليد فرص عمل وضمان ديمومة الإنتاج.
  • تحفيز البحث العلمي والابتكار في التخزين الطاقي، وخاصة البطاريات المنخفضة الكلفة.
  • التدرّج في كهربة النقل، بداية بالنقل العمومي.
  • تطوير آليات لتقريب مواقع الإنتاج من الاستهلاك، أو تطوير محولات الجهد العالية.

الحذر من الأجندات الخارجية:

تخضع السياسات الطاقية التونسية اليوم لاختراقات متعددة:

  • شبكات ضغط خارجية تُملي شروطًا بيئية متشددة على حساب السيادة الوطنية.
  • محاولات تطبيع السوق الطاقية المحلية مع نموذج السوق الأوروبية التي تبيع الكهرباء بأسعار مضاربية مرتبطة بالغاز.
  • مشاريع ربط كهربائي تُهدد بتحويل تونس إلى مجرد مزوّد طاقة أولي دون قيمة مضافة داخلية.

لذلك لا بد من ترسيخ مقاربة وطنية مستقلة، تُمكّن من التحكم في كل مفاصل المنظومة الطاقية، من الإنتاج إلى التخزين، ومن التوزيع إلى التسعير.

خاتمة:

السيادة الطاقية ليست خيارًا تنمويًا فحسب، بل هي قاعدة كل سياسة وطنية مستقلة. فالاقتصاد، والصحة، والتعليم، والصناعة، والعدالة الاجتماعية، كلها مرتهنة بمنظومة طاقية فعالة، رخيصة، ومستقلة. إن تحرير الاقتصاد الوطني يمرّ حتميًا عبر تحرير الكهرباء من التبعية، وجعلها في خدمة الشعب والدولة، لا السوق والمضاربين.

القرار الحرّ،
الولاء للوطن. السيادة للشعب.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *