تشهد السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحولات جيوسياسية كبرى قد تُسرّع من تشكّل نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تبرز تحالفات جديدة وتتفكك أخرى في مختلف أنحاء العالم. هذه التحولات ليست فقط نتاجًا لسياسات ترامب المثيرة للجدل، بل تعكس أيضًا تراجع النفوذ الأمريكي التقليدي وصعود قوى إقليمية ودولية جديدة. في هذا السياق، يُعتبر النظام العالمي متعدد الأقطاب الأكثر ملاءمة لمصالح الدول النامية، حيث يوفر فرصًا أكبر للتعاون مع أطراف متعددة ويعزز استقلالية هذه الدول، على عكس نظام القطب الواحد الذي تهيمن فيه قوة عظمى واحدة، أو نظام القطبية الثنائية أو الثلاثية الذي قد يؤدي إلى صراعات بالوكالة. النظام متعدد الأقطاب، رغم تعقيداته، يدعم التنمية والعدالة الدولية، ويحد من الهيمنة ويعزز المشاركة العادلة في صنع القرارات العالمية. في هذا المنشور، سنستعرض كيف يمكن لسياسات ترامب أن تساهم في تعزيز هذا التحول العالمي، مع التركيز على الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا وآسيا، وكيف يمكن لهذا التحول أن يعود بالنفع على الدول النامية في ظل نظام عالمي أكثر توازنًا.
الشرق الأوسط: تحالفات جديدة وموازين قوى متغيرة
في الشرق الأوسط، أثارت دعوات ترامب المؤيدة لإسرائيل بتهجير سكان غزة ردود فعل واسعة، خاصة في الدول العربية مثل مصر والأردن والسعودية. هذه الدعوات قد تؤدي إلى تشكيل جبهة عربية جديدة تهدف إلى مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية. إذا ما أصرت الإدارة الأمريكية على المضي في سياسة التهجير، فقد تتحول هذه الجبهة إلى تحالف حقيقي يعيد رسم موازين القوى في المنطقة.
في هذا السياق، لن تكون إيران فقط هي العدو الذي يجب تحجيم نفوذه العسكري، بل ستبرز قوى إقليمية جديدة تسعى إلى تعزيز أمنها واستقرارها بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية. هذا التحول قد يُضعف دور إسرائيل كقوة الردع الوحيدة في المنطقة، ويعزز من دور الدول العربية في صناعة القرار الإقليمي. وفقًا لتحليلات مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فإن أي تحالف عربي جديد سيكون له تأثير كبير على استقرار المنطقة، خاصة إذا ما حظي بدعم شعبي واسع.
إفريقيا: صحوة دبلوماسية وتحرر من الهيمنة الاستعمارية
على المستوى الإفريقي، تشهد القارة تحركات دبلوماسية كبيرة بعد أن تخلصت العديد من دولها من الهيمنة الفرنسية. نلاحظ ذلك خاصة في الدورة الثامنة والثلاثين للاتحاد الإفريقي، حيث برزت دعوات قوية للمطالبة بتعويضات عن الحقبة الاستعمارية، مما يعكس تقاربًا بين الدول الإفريقية وسعيها لتعزيز سيادتها واستقلاليتها.
إذا ما استمر هذا التقارب وبرز تحالف قوي داخل القارة، فقد تصبح إفريقيا قطبًا جديدًا في النظام العالمي متعدد الأقطاب. هذا التحالف لن يعتمد فقط على التعاون الاقتصادي والسياسي، بل أيضًا على التأييد الشعبي الذي يمكن أن يدعم بروزه ويعزز من مكانته الدولية. وفقًا لتقرير صادر عن المعهد المذكور سابقًا، فإن التحركات الإفريقية الأخيرة تعكس رغبة حقيقية في إعادة تشكيل العلاقات الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
في هذا السياق، يمكن لتونس أن تلعب دورًا فعّالًا في تعزيز التضامن الإفريقي وتقريب وجهات النظر بين الدول. تتمتع تونس بتاريخ دبلوماسي غني وسمعة طيبة في الوساطة وحل النزاعات، حيث كانت دائمًا طرفًا محايدًا وموثوقًا به في القضايا الإقليمية والدولية. إضافة إلى ذلك، تتمتع تونس بعلاقات دبلوماسية متوازنة مع العديد من الدول الإفريقية، سواء في شمال إفريقيا أو جنوب الصحراء الكبرى. هذا التوازن يمكن أن يجعلها وسيطًا مثاليًا في القضايا الخلافية، مثل النزاعات الحدودية أو الخلافات التجارية. وفقًا لتحليل نشرته مجلة “إفريقيا اليوم”، فإن تونس لديها الإمكانات الضرورية لتكون مركزًا دبلوماسيًا إفريقيًا، خاصة إذا ما استثمرت في تعزيز دورها كوسيط إقليمي.

إن الصحوة الدبلوماسية في إفريقيا ليست مجرد رد فعل على الماضي الاستعماري، بل هي خطوة نحو مستقبل أكثر استقلالية وتضامنًا. في هذا السياق، يمكن لتونس أن تلعب دورًا محوريًا من خلال تعزيز دورها كوسيط إقليمي يحظى بثقة جميع الأطراف. إذا ما استثمرت تونس في هذا الدور، فإنها لن تعزز فقط مكانتها الإقليمية، بل ستساهم أيضًا في تعزيز التضامن الإفريقي وبناء عالم متعدد الأقطاب.
أوروبا: تفكك الاتحاد الأوروبي وصعود اليمين المتطرف
أما في أوروبا، فقد تسرع سياسات ترامب الخارجية من تفكك الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية. دعم ترامب لليمين المتطرف في أرجاء أوروبا، وخاصة في ألمانيا، يهدد بزعزعة استقرار الاتحاد. إذا ما وصل حزب اليمين المتطرف الألماني إلى سدة الحكم، فقد يكون ذلك المسمار الأخير الذي يدق في نعش الاتحاد الأوروبي.
فقد أعلنت رئيسة الحزب، آليس فايدل، سابقًا عن رغبتها في مغادرة الاتحاد الأوروبي إذا ما بلغت الحكم، وهو ما قد يفجر الاتحاد من الداخل، خاصة وأن ألمانيا تعتبر العمود الفقري للاتحاد. تفكك الاتحاد الأوروبي سيكون له تداعيات كبيرة على النظام العالمي، حيث ستفقد أوروبا قدرتها على لعب دور فاعل في السياسة الدولية، مما يعزز من ظهور أقطاب جديدة تتزعمها حكومات يمينية.

إضافة إلى ذلك، فإن الخطابات المعادية للاتحاد الأوروبي التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون، بالإضافة إلى التهديدات بفرض رسوم جمركية على دول الاتحاد، تساهم في تعجيل سقوطه. هذه التصريحات ليست فقط استفزازية، بل تعكس أيضًا سياسة خارجية أمريكية تهدف إلى إضعاف التكتّل الأوروبي لصالح مصالح أمريكية وضمان حكومات أوروبية موالية للإدارة الأمريكية الحالية. التهديدات التجارية، مثل فرض رسوم جمركية على السيارات الألمانية أو المنتجات الفاخرة أو الزراعية الفرنسية، تزيد من التوترات داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تتفاقم الخلافات بين الدول الأعضاء حول كيفية الرد على هذه الضغوط الأمريكية. هذا الوضع يضعف التضامن الأوروبي ويسرع من احتمالية تفكك الاتحاد.
عزل الصين وتفكيك تحالفاتها القائمة أو المحتملة
في الطرف الآخر من أوروبا، يسعى ترامب إلى إعادة روسيا إلى قلب السياسة الأوروبية من خلال تسويات في حرب أوكرانيا، وذلك عن طريق تقديم تنازلات مثل إنشاء منطقة عازلة على حدود أوكرانيا أو حتى استرجاع شبه جزيرة القرم، والهدف من ذلك هو تجميد التقارب الروسي-الصيني.
إن إبعاد روسيا عن الصين من خلال تسويات سياسية سيغيّر موازين القوى العالمية، خاصة إذا ما تم تنصيب حكومة موالية لروسيا أو محايدة في أوكرانيا. هذه الخطوات قد تعيد تشكيل التحالفات الدولية وتسرع من ظهور عالم متعدد الأقطاب.

أما في آسيا، فإحدى الأمثلة البارزة كانت الدعوة الأخيرة التي وجهها الرئيس الأمريكي لرئيس الوزراء الهندي، والتي أبدى خلالها الأخير رغبته في شراء الأسلحة والنفط والغاز من الولايات المتحدة. كما عبر ناريندرا مودي عن أن نيودلهي سيكون لها “إطار دفاعي جديد مع أمريكا”. هذه الخطوة تأتي في إطار استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى تعزيز العلاقات مع الدول الآسيوية الكبرى، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية، من أجل إضعاف النفوذ الصيني في المنطقة.
آسيا: التصعيد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي وتداعياته
في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تشهد العلاقات الأمريكية-الصينية تصعيدًا خطيرًا بسبب المناوشات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي ودعمها لاستقلال تايوان. هذه الخطوات تهدّد الأمن القومي الصيني بشكل مباشر، حيث تعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. ومن المتوقع ألا تتسامح الصين مع هذه الممارسات، وستتحرك بكل قواها الدبلوماسية، وإذا لزم الأمر، العسكرية، لضمان أمنها القومي.
وفقًا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI)، فإن أي تصعيد عسكري في المنطقة قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين القوتين العظمتين، الولايات المتحدة والصين، مما يهدد السلم العالمي برمته. الصين، التي تعتبر نفسها قوة صاعدة، لن تتردد في استخدام كل الأدوات المتاحة لحماية مصالحها، بما في ذلك تعزيز تحالفاتها مع دول مثل روسيا وإيران وحتى الاتحاد الأوروبي.

في حركة دبلوماسية صينية ردا على سعي الولايات المتحدة لعزل الصين وتفكيك تحالفاتها القائمة أو المحتملة، تتجه الصين إلى تعزيز علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، مستغلة فرصة التشنجات المتزايدة بين أوروبا والولايات المتحدة. هذا التوجه الصيني يعكس استراتيجية دبلوماسية ذكية تهدف إلى تعويض الضغوط الأمريكية من خلال بناء تحالفات جديدة مع قوى عالمية أخرى.
في هذا السياق، أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي خلال مؤتمر أن “الصين تعتقد دائمًا أن أوروبا ركيزة أساسية في عالم متعدد الأقطاب”. وأضاف أن “الصين وأوروبا شريكان وليسا خصمان”، مشددًا على استعداد الصين للعمل مع الاتحاد الأوروبي لتعميق الاتصال الاستراتيجي والتعاون متبادل المنفعة. كما أشار إلى أن الذكرى الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والاتحاد الأوروبي هذا العام تمثل فرصة تاريخية لفتح صفحة جديدة من التعاون.
هذا الخطاب يعكس استراتيجية صينية واضحة لاستغلال الفرص الناتجة عن التوترات بين أوروبا والولايات المتحدة، خاصة في ظل السياسات الأمريكية التي تهدد بفرض رسوم جمركية على المنتجات الأوروبية ودعمها لليمين المتطرف في أوروبا، مما يضعف التضامن داخل الاتحاد الأوروبي.
عالم متعدد الأقطاب في الطريق
سياسات ترامب الخارجية، رغم كونها مثيرة للجدل، تساهم في تسريع ظهور عالم متعدد الأقطاب. من الشرق الأوسط إلى إفريقيا وأوروبا وآسيا، تشهد مناطق العالم تحولات جيوسياسية كبرى تعيد رسم الخريطة السياسية الدولية. تحالفات جديدة تبرز، وقوى إقليمية تتحرر من الهيمنة التقليدية، مما يعزز من تعددية الأقطاب في النظام العالمي.
في الشرق الأوسط، قد يؤدي الاستمرار في فرض التهجير إلى تشكيل تحالف عربي جديد. في إفريقيا، تبرز صحوة دبلوماسية تعزز من مكانة القارة على الساحة الدولية. في أوروبا، تهدد سياسات ترامب بتفكيك الاتحاد الأوروبي. وفي آسيا، تهدد المناوشات الأمريكية باندلاع صراع كبير مع الصين.
إذا ما استمرت هذه التحولات، فقد نشهد قريبًا عالمًا جديدًا تتصارع فيه أقطاب متعددة على النفوذ والهيمنة. هذا العالم متعدد الأقطاب، رغم كونه أكثر تعقيدًا، قد يكون أيضًا أكثر توازنًا، حيث تتنافس القوى الكبرى والإقليمية على تعزيز مصالحها دون هيمنة قوة واحدة.
القرار الحرّ،
الولاء للوطن، السيادة للشعب.
اترك تعليقاً