تشهد منطقة شمال إفريقيا والساحل تحولات جيوسياسية وأمنية عميقة، حيث تتصاعد التهديدات الإرهابية والجريمة المنظمة، بينما تتداخل المصالح الدولية والإقليمية في تعقيد المشهد.

 تونس، التي تقع في قلب هذه المنطقة، تواجه تحديات أمنية جسيمة، خاصة على حدودها الشرقية مع ليبيا. في هذا السياق، يبرز التعاون التونسي الجزائري كحل استراتيجي لتعزيز الأمن والاستقرار، ليس فقط على المستوى المحلي، بل أيضًا على مستوى المنطقة بأكملها.

التحديات الأمنية في تونس: الحدود الليبية نموذجًا

تواجه تونس تهديدات أمنية متزايدة، خاصة على حدودها الشرقية مع ليبيا، التي تشهد فوضى سياسية وعسكرية منذ سقوط نظام القذافي في عام 2011. وفقًا لتقرير صادر عن معهد الدراسات الأمنية  في سنة 2023، تحولت ليبيا إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية مثل داعش وأنصار الشريعة، حيث تم تسجيل أكثر من 50 هجومًا إرهابيًا في سنة 2022 وحده. هذه البيئة المضطربة تهدد بشكل مباشر أمن تونس، التي تعتمد على تعزيز التعاون الإقليمي لمواجهة هذه التهديدات.

في سنة 2016، شهدت مدينة بن قردان واحدة من أخطر الهجمات الإرهابية، عندما حاولت جماعة مسلحة التسلل من ليبيا لإقامة قاعدة على الحدود التونسية الليبية. رغم التسلح المتقدم لتلك الجماعات، تمكنت القوات التونسية، بدعم شعبي واسع، من صد الهجوم، لكن ذلك كشف عن حجم التهديدات القادمة من الجار الليبي. هذه التهديدات تفاقمت مع التدخلات الخارجية في ليبيا، لا سيما الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني وتمويلها للمجموعات المسلحة.

التدخلات الخارجية في ليبيا: تعقيدات المشهد الأمني

تزايدت المخاوف من التواجد التركي في ليبيا بعد توقيع حكومة الوفاق الوطني مع تركيا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في سنة 2019. هذه الاتفاقية، التي تم انتقادها من قبل العديد من دول الجوار، تهدد الاستقرار الإقليمي وتزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة. وفقًا لتقرير مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تعزز تركيا حضورها العسكري والاقتصادي في ليبيا من خلال هذه الاتفاقية، مما يزيد من مخاطر انعدام الاستقرار في الجوار، خاصة تونس، التي قد تتأثر بشكل مباشر في حال تصاعد التوترات في ليبيا.

علاوة على ذلك، فإن الحضور التركي بشكل قوي في سوريا، ما يزيد من القلق بشأن إمكانية نقل تركيا مقاتلين من سوريا إلى الحدود الليبية التونسية، مما يعمق التهديدات الأمنية على تونس. هذه المعطيات تبرز الحاجة إلى تعزيز التعاون الأمني بين دول الجوار لمواجهة التحديات المتزايدة.

الجزائر: شريك استراتيجي في مكافحة الإرهاب

تتمتع الجزائر بخبرة واسعة في مجال مكافحة الإرهاب، مما يجعلها شريكًا استراتيجيًا أساسيًا في هذا التحالف. فقد مرت الجزائر بتجربة عصيبة خلال تسعينيات القرن الماضي عُرفت بـ”العشرية السوداء”، حيث واجهت موجة عنيفة من الهجمات الإرهابية. من خلال هذه التجربة، طورت الجزائر استراتيجيات فعالة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك تعزيز التعاون الاستخباراتي وتوسيع العمليات العسكرية عبر حدودها مع دول الساحل والصحراء.

وفقًا لتقرير معهد بروكينغز، تلعب الجزائر أيضًا دورًا محوريًا في تعزيز الاستقرار في منطقة الساحل، حيث تنتشر العديد من التنظيمات الإرهابية التي تهدد الأمن الإقليمي. هذه الخبرة تجعل الجزائر شريكًا لا غنى عنه لتونس في جهود مكافحة الإرهاب، من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون العسكري لتعزيز الأمن المشترك.

 المبادرة التونسية الجزائرية: نحو تحالف إقليمي

في هذا السياق، تأتي المبادرة التونسية الجزائرية كخطوة أولى نحو تأسيس تحالف أمني إقليمي يضم في البداية تونس والجزائر، مع إمكانية توسيعه ليشمل موريتانيا والسنغال. يعتمد هذا التحالف على عدة عوامل رئيسية، منها التحديات الأمنية المشتركة والروابط الجغرافية والثقافية التي تربط بين هذه الدول.

تعد الحدود الطويلة بين الجزائر وموريتانيا، عاملاً مساعدًا في تعزيز التنسيق الأمني واللوجستي بين البلدين، خاصة في مجال مراقبة الأنشطة الإرهابية والتهريب. كما أن الطريق المزمع انجازه الرابط بين تندوف والزويرات يشكل نقطة اتصال حيوية تعزز التعاون بين دول المنطقة، مما يمهد الطريق لانضمام السنغال لاحقًا. وقد دُشّن هذا المشروع من قبل الجزائر وموريتانيا، ويمكن دعم هذا الطريق ليصل إلى تونس شمالًا والسنغال جنوبًا، وهو ما سيساهم في تعزيز التنسيق اللوجستي والأمني بين الدول الأربعة ويعزز التواصل بين مناطق الساحل وشمال إفريقيا.

إلى جانب تونس والجزائر، تُعد موريتانيا واحدة من الدول التي تواجه تحديات كبيرة في مجال الهجرة غير النظامية. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الهجرة الدولية في عام 2023، تشهد موريتانيا تدفقًا متزايدًا للمهاجرين غير النظاميين الذين يعبرون أراضيها من دول جنوب الصحراء الكبرى، بهدف الوصول إلى السواحل الشمالية ومن ثم إلى أوروبا. تُعتبر موريتانيا نقطة عبور رئيسية لهذه الهجرة، مما يضع ضغوطًا إضافية على مواردها الأمنية والاقتصادية.

في موريتانيا، تُستخدم شبكات التهريب التي تعمل في مجال الهجرة غير النظامية كقنوات لتمرير الأسلحة والمخدرات، مما يعزز من نشاط الجريمة المنظمة ويهدد الأمن الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، أدى تدفق المهاجرين إلى زيادة التوترات الاجتماعية في بعض المناطق الحدودية، حيث يُنظر إليهم أحيانًا على أنهم منافسون للعمالة المحلية.

 أظهرت السنغال، واحدة من أبرز دول غرب إفريقيا، استعدادًا  للانضمام إلى هذا التعاون الإقليمي. فقد قام وزير الدفاع السنغالي بزيارة إلى تونس والجزائر، حاملًا رسائل من الرئيس ماكي سال تعكس التوجه الإيجابي للسنغال نحو تعزيز التعاون الأمني والتنموي مع جيرانها. هذا الانفتاح يعد جسرًا بين دول شمال إفريقيا ودول الساحل، مما يعزز التنسيق الإقليمي في مواجهة الإرهاب والجريمة  في هذا السياق، يمكن أن يكون التحالف التونسي الجزائري، بدعم من  موريتانيا و السينغال، أداة فعالة لمواجهة هذه التحديات.

تعزيز التعاون العملي والمؤسساتي

من الضروري أن يبدأ التحالف بخطوات عملية ومؤسساتية لتعزيز التعاون بين تونس والجزائر وموريتانيا والسنغال. يمكن تحقيق ذلك من خلال تنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات البنية التحتية، مثل تطوير شبكات الطرق التي تربط هذه الدول، وإطلاق مشاريع تنموية في المناطق الحدودية التي تشهد انتشارًا للتطرف. كما يمكن تعزيز التعاون العسكري عبر تنظيم تدريبات مشتركة بين جيوش الدول الأربع، وتبادل المعلومات الاستخباراتية لمكافحة الشبكات الإرهابية العابرة للحدود.

في مجال الهجرة غير النظامية، يمكن إنشاء مراكز مشتركة لمراقبة الحدود تعتمد على تقنيات حديثة مثل الطائرات بدون طيار وأنظمة المراقبة الإلكترونية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تنظيم حملات توعوية مشتركة لتثقيف المجتمعات المحلية حول مخاطر الهجرة غير النظامية.

التحديات الداخلية والخارجية

على الرغم من أهمية هذا التحالف، إلا أنه يواجه تحديات داخلية وخارجية قد تعرقل نجاحه. فعلى المستوى الداخلي، قد تشكّل بعض القوى السياسية في تونس مقاومة لهذا التعاون، حيث قد ترى فيه تهديدًا لمصالحها الضيقة. أما على المستوى الخارجي، فقد تسعى بعض القوى الدولية والإقليمية إلى إضعاف هذا التحالف، خاصة في ظل الفوضى المستمرة في ليبيا وأزمة الصحراء الكبرى، عبر نشر المعلومات المضللة أو تحفيز التدخلات الأجنبية.

المكاسب الاستراتيجية لتونس

يوفر هذا التحالف لتونس العديد من المكاسب الاستراتيجية. أولاً، سيمكّنها من تعزيز أجهزتها الأمنية والعسكرية من خلال التنسيق الوثيق مع الدول الأخرى في مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة. ثانيًا، سيساعد تونس في تأمين حدودها بشكل أفضل في ظل التهديدات الإرهابية المتزايدة . بالإضافة إلى ذلك، سيفتح التحالف آفاقًا جديدة للتنمية الاقتصادية عبر مشاريع مشتركة تساهم في تحسين الأوضاع المعيشية في المناطق الحدودية، مما يقلل من الفقر والبطالة، وهما بيئة خصبة للتطرف.

و من خلال التعاون مع الجزائر وموريتانيا في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، يمكن لتونس تعزيز أمنها الحدودي وتقليل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن تدفق المهاجرين.

الخلاصة: نحو تعاون إقليمي مستدام

استعادة السيادة الوطنية ليست خيارًا، بل ضرورة لضمان مستقبل مستقل ومزدهر لتونس. فبدون سيادة، تصبح التنمية مجرد وهم، والاستقلال مجرد شعار. مبادرة القرار الحر تمثل التزامًا بالعمل الجاد من أجل تحقيق هذه الأهداف، مع الالتزام بمبادئ العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. معًا، نستطيع بناء دولة قوية ومستقلة، تكون نموذجًا للتحرر والتنمية المستدامة.

القرار الحرّ،
الولاء للوطن، السيادة للشعب.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *